الفهرس
مقدّمة
الفصل الأوّل – الخلق بالطّين
– تراب من الأرض
– الأرض والماء
– النّار، والرّيح، والماء، والتّراب، والهواء، والظّلام
الفصل الثّاني – الخلق بالقول
– حول الحوار بين المادّة والخالق
– المادّة والرّوح
الخاتمة
مقدّمة
في النّهاية المُذهلة لتكوين العالم، خُلِق الإنسان بتسلسل اللّانهاية، وأبقى الخالق خلق الإنسان بحكمته حتّى النّهاية.[i] كان ذلك تكوينًا بالقول: “وقال اللّه نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (سفر التّكوين، الإصحاح 1، آية 26)، وخلقًا بالطّين: “وجبل الرّبّ الإله الإنسان ترابًا من الأرض” (سفر التّكوين، الإصحاح 2، آية 7).
في الوسط بين الكلمة والطّين، بين الواقع والاستعارة، نرى في الأيّام السّتّة الأولى من التّكوين ظهور الموادّ الخام من العدم، وظهور المخلوقات من الموادّ الموجودة، وتتكشّف لنا صورة مُثيرة حول الموادّ الأوّليّة التي تكوّن منها العالم، وفي داخله الإنسان.
ينعم هذا المقال النّظر في وصف الموادّ الخام التي منها خُلِق الإنسان كما ينعكس ذلك في مصادر توراتيّة، تفسيريّة، روحانيّة، وميثولوجيّة، وكذلك في التّقاليد القديمة لدى ثقافات الشّرق القديم التي تتواصل مع النّصوص التّوراتيّة وتشكّل صدًى لها. لن يُعنى المقال في فرز التّسلسل التّاريخيّ للتّأويلات، بل بالمصادر التي تمتّ بصلة لمضمون هذه المجلّة: المادّة الخام.
يُعنى هذا المقال بجانبين مركزيّين لخلق الإنسان، وليس بحسب ترتيب ظهورهما في أوّل إصحاحين من سفر التّكوين:
أ. جانب الخلق بالطّين في الإصحاح الثّاني – ننعم النّظر في الموادّ الخام التي منها خُلِق الإنسان. هل خُلِق الإنسان فقط من تراب الأرض، أمّ أنّ موادّ أخرى شاركت في خلقه؟
ب. جانب الخلق بالقول في الإصحاح الأوّل – سوف أطرح أفكارًا حول الحوار بين الخالق والمادّة، وبين المادّة والخالق في خلق الإنسان، كقيمة تُعطي صدًى للأمور التي يخلقها الإنسان.
الفصل الأوّل – الخلق بالطّين
تراب من الأرض
“وجبل الرّبّ الإله الإنسان ترابًا من الأرض” (سفر التّكوين، الإصحاح الثّاني، آية 7).
اسمه آدم، مستوحًى من مكان خلقه ويُذكّر باسم المادّة الخام التي منها خُلِق، الأرض (אדמה)، كُتِبَ عن خلقه ترابًا من الأرض في “تكوين رابا”: “قال هونا التّلموديّ إنّ التّراب ذكرًا والأرض أنثى“؛[i] “وبحسب المدراش (מדרש)، فإنّ لجميع المخلوقات لها مادّة ولها حياة، ذكور وإناث، وحتّى في النّبات والجماد”.[ii] اجتمعت الذّكورة والأنوثة في خلق الإنسان في جسد واحد، إذ كتب في تتمّة سفر التّكوين: “هذا كتاب مواليد آدم: في يومٍ، خلق الله الإنسان […] ذكرًا وأنثى خلقهما؛ وباركهما، وأطلق عليهما اسم آدم” (سفر التّكوين، إصحاح 5، آية 1-2). وهكذا قال الحاخام إرميا بن إليعازر: “ساعة خلق الله الإنسان الأوّل، خلقه ثنائيّ الجنس، ولهذا السّبب كُتِب: ذكرًا وأنثى خلقهما”. [iii]
تتوسّع نصوص الأجاداة (האגדה) في موضوع المادّتين الخام هاتين، وتدمج في وصف تكوين العالم جيش السّماء، أي الملائكة، كخطوة من التّوافق والمشاركة بين الخالق وخادميه.
“بما أنّ ملائكة الشّعر وافقوا على خلق الإنسان، قال الله لجبرائيل: اذهب وأحضر لي ترابًا من أربع زوايا العالم وسأخلق منه الإنسان […] ذهب جبرائيل لجمع التّراب من الأرض فدفعته الأرض إلى الخلف ولم تدعه يأخذ منها التّراب. قال لها جبرائيل: يا أرض، لماذا لا تذعني لسيّدك الذي وضعك على المياه دون عوارض أو أعمدة؟ أجابته الأرض قائلة: مصيري أن أكون لعنةً وملعونةً في سبيل الإنسان، وإذا لم يأخذ الله بنفسه التّراب منّي، لن يأخذه منّي أيّ كان أبدًا. عندما رأى اللّه ذلك […] بسط يده وأخذ من التّراب وخلق منه الإنسان […]”.[iv]
استمرّت الفرضيّة بخصوص المصدر الطّينيّ للموادّ في تأريق المسيحيّين أيضًا، الذين لم يفقهوا العبريّة ولم يقرؤوا النّص في لغته الأصليّة، فكان تأويلهم مشابهًا لذلك الذي يظهر في الأجاداة اليهوديّة. بحسب سفر أحنوخ السلافيّ، الذي يعتمد على نسخة أصليّة يونانيّة، فإنّ اسم آدم (بالأحرف اللّاتينيّة) مشتقّ من الأحرف التي تبتدئ أسماء الرّياح الأساسيّة الأربعة: Anatole، Dysis، Arctos، Mesembria (والتي توافق بحسب ترتيب كتبتها: الشّرق، والغرب، والشّمال، والجنوب)، وقد بني جسده من تراب أخذ من أربع الرّياح السّماويّة.[v]
أمّا المسلمون، فيروون أنّ الملائكة ميخائيل، وإسرائيل، وعزرائيل أحضروا ترابًا من أربع جهات العالم، وممّا أحضروه خلق الله جسد آدم؛ إلّا أنّ الله اختار ترابًا من مكّة، أي من المكان الذي أقيمت فيه الكعبة المشرّفة في ما بعد، لتصميم رأس آدم وقلبه. مكّة هي مركز الأرض بالنّسبة للمسلمين، كما هي الحال مع جبل مورياه بالنّسبة للعبرانيّين، وكما كانت دلفي بالنّسبة للإغريق”.[vi]
الأرض والماء
في أوصاف خلق الإنسان المُشتقّة من النّصوص النّبويّة في التّوراة، ومن المصادر التّأويليّة، والرّوحانيّة، والميثولوجيّة، والفكرية، بالإضافة إلى المصادر المدراشيّة اللّاحقة، يظهر احتمال أن تكون المادّتان اللّتان اشتركتا لتكوين الطّين الذي منه خُلِق الإنسان هما التّراب والماء. يمكن إيجاد دليل على ذلك أيضًا في التّقاليد القديمة التّابعة لحضارات الشّرق القديم، والتي تتواصل مع نصوص توراتيّة. بحسب جميع هذه التّقاليد، هناك تعبير عن فكرة خلق الله لبني البشر من “مادّة” هي عبارة عن تراب مخلوط بالماء، بما يشبه “الطّين” المُستخدم في صنع الفخار، أي في فنّ صناعة الأواني الخزفيّة، وهو من أولى الفنون التي اخترعها الإنسان. إنّ جودة الطّين،[i] أي غرين الجداول الموجود في الطّبيعة منذ أيّام التّكوين، وهو المادّة التي أُنتِجت منها الأواني الفخاريّة الأولى، بالإضافة إلى خواصّه اللّينة التي تسمح بإعطائه شكلًا، وجعله صلبًا بواسطة حرقه بالنّار، حوّلته إلى مادّة يُمكن استخدامها لغرض الإنتاج.
بحسب تصوّرات شعوب الشّرق القديم، فقد خلقت الآلهة بني البشر من خزف مصدره الأرض. في الأساطير المصريّة، والبابليّة واليهوديّة التّابعة للعالم القديم، تلك التي تحدّثنا عن بدء الخليقة، يظهر خليط الأرض والماء كموادّ خام لخلق الإنسان، مع اختلاف الثّيمات في ما بينها بحسب اختلاف الخواصّ الحضاريّة بين تلك البلاد. وجه الشّبه في جميعها هو الحديث عن مادّة قديمة، وعن الآلهة الخالقة، ونهايةً أيضًا عن خلق الإنسان. في تلك الحضارات، يتّسم التّكوين بالأساس بوجود صراع هائل بين الآلهة، ليُشكّل فصلًا في تاريخها الحافل بالأحداث.[ii]
إنّ أسطورة خلق الإنسان من تراب، من طين، أو من رماد، هو أسطورة شائعة جدًّا. في المصادر المصريّة القديمة، هناك وصف لخلق الإله “خنوم” أو الإله “بتاح” الإنسان على دولاب الخزف، وفي بابل، فكانت الإلهة “أرورو” أو الإله “إيا” من عجنا صورة الإنسان من صلصال الحقول، وأمّا في الميثولوجيا الإغريقيّة فبروميثيوس هو الذي استخدم الطّين الأحمر لخلق الإنسان.[iii]
في أنطولوجيا قصائد الشّرق القديم، بعنوان “في تلك الأيّام البعيدة”، من إعداد ش. شيفرا ويعقوف كلاين، يحدّثنا فصل “الآلهة كبني بشر” عن خلق الإنسان بحسب الميثولوجيا السّومريّة المحفوظة منذ الفترة البابليّة القديمة، ويقتبس من نصّ اسمه إنكي ونينماح، الذي يصف كيف أنّ إنكي، وهو إله الحكمة والمياه الجوفيّة العذبة، هو ذلك الذي وضع خطّة لخلق الإنسان وأشرف على العمل، الذي شاركت به نامو، “الأم البدائيّة”، بالإضافة إلى “إلهتا رحم”، في خلق صورة من الصّلصال.
“وبعد أن كان إنكي، خالق كلّ شكل، وحده وضع في قلبه
فكرة (الخلق) تلك،
وقال لوالدته، نامو: “أمّي، الكائن الذي ناديت باسمه؟ — كان فيكون!
ضعي (عليه) عذاب الآلهة!
سوف ترطّبي قلب الصّلصال القابع على ظهر أبزو،
وسوف تقرص “إلهتا الرّحم” من الصّلصال (بأكفّتهما).
وبعدئذٍ تصنعين صورة…”[iv]
يشدّد المؤلّفان على أنّ هذه الأسطورة هي أقدم شهادة على التّقاليد التي كانت سائدة في العالم القديم حول خليقة الإنسان، وهي من إنتاج سومريّ أصليّ.
إنّ الإنعام في الأدب اليونانيّ الرّومانيّ، ومقارنته بنصوص الحكماء اليهود في الفترة ذاتها، يُظهر تأويلًا مشتركًا بينها لاستخدامها لذات المواد الخام لخلق الإنسان في التّكوين. في نصوص الحكماء اليهود، مكتوب عن خلق الإنسان من خليط من الماء والتّراب، والدّليل على ذلك هو الآية السّابقة (سفر التّكوين، الإصحاح الثّاني، آية 6): “ثمّ علا بخار من الأرض وسقى سطح الأرض كلّه”. بحسب الميثولوجيا اليهوديّة، صمّم بروميثيوس بني البشر من الماء والتّراب، ونظم الشّاعر الرّومانيّ أوفيد: “أخذ (بروميثيوس) طينًا ورطّبه بمياه الأمطار وأنتج صورة الإنسان.”[v]
يظهر وصف جميل في نصّ “تكوين رابا”، وبموجبه لم يستخدم الله التّراب كيفما اتّفق، بل اختار ترابًا طاهرًا كي يكون الإنسان مثل تاج الخليقة. تصرّف الله كما تتصرّف امرأة تخلق الطّحين بالماء وتأخذ بعضًا من العجين لصنع خبز الـ “حالاه” (חלה). هكذا هي الحال في خليقة الإنسان أيضًأ: بدايةً، علا البخار ورطّب الأرض، ثمّ استخدم الله بعضًا منها لخلق الإنسان الذي كان أوّل خبز “حالاه” في العالم.[vi]
تظهر هذه الفكرة بأشكال عديدة في تأويلات وتفسيرات مختلفة على مرّ الأجيال وصولًا إلى مؤوّلين من عصرنا الحاليّ. فالحاخام شمشون رافائيل هيرش، وهو من مؤسّسي اليهوديّة الـ “نيو-أرثوذكسيّة” في القرن التّاسع عشر، كتب تأويلًا لسفر التّكوين، وفيه فصل يُعنى بمسألة استخدام الطّين في خليقة الإنسان، وبمكانة الماء والتّراب كمادّتين خام في خلق الإنسان، وبمكانتهما في خلق النّباتات والأحياء جميعها. يصف هيرش العمليّة التي تجمع بين هاتين المادّتين لتحضير الطّين الذي خُلِق منه الإنسان، ويشدّد على مكانة الأرض السّالبة في خلق الإنسان، وذلك بعكس مكانتها الفاعلة في خلق المخلوقات الأخرى.
“وها نحن نقرأ هنا: “وجَبَلَ الرّبّ الإله الإنسان ترابًا من الأرض فكان الإنسان روحًا حيّة”، بما معناه: أنّ خالق العالم الذي يُحدث النّظام فيه أراد أن يبني عالمه؛ ولذلك خلق الإنسان ترابًا من الأرض، ونفخ روح الحياة في أنفه؛ وهكذا صار الإنسان روحًا حيّة. أمّا في خليقة سائر المخلوقات، فقال: “لتُخرَج من الأرض روحًا حيّة”. أي أنّ الأرض كانت فاعلة في خليقتها، كما كانت فاعلة في خليقة النّباتات؛ وأخرجت حيواتهم، كما أخرجت أجسادهم […] لكنّ ذلك بخلاف خليقة الإنسان. فكانت الأرض سالبة في خليقته – حتّى ساعة خلق جسده. انتهت مساهمة الأرض في خلق الإنسان قبل خلقه. منذ خُلِقَت الأرض، فقد سقت نفسها طيلة الوقت لتحضير الطّين الذي سيُخلَق منه المُصطفى من بين البرايا. بتحضيرها لهذا الطّين الممتاز، استنفدت الأرض دورها بأكمله. فقد أنتجت الطّين اللّازم لجسد الإنسان، وكان ذلك آخر عمل لها وأفضلها.”[vii]
في تأويله لسفر التّكوين “من آدم وحتّى نوح”،[viii] يكتب موشيه دافيد كاسوتو، وهو مؤوّل عني أيضًا في مراجعة التّوراة ونصوص الشّرق القديم، حول الطّين الذي خُلِق منه الإنسان. يعتمد في كتابه على ما جاء في سفر أيّوب، الإصحاح 33، آيه 6: “أنا أيضًا من الطّين تقرّصت“، ويُضيف أنّ الجذر ق.ر.ص يُستخدم أيضًا في اللّغة الأكاديّة لنفس الغرض. يعتمد كاسوتو في ذلك على “ملحمة غلغامش” القادمة من بلاد ما بين النّهرين،[ix] وهي على ما يبدو أقدم نصّ حبكيّ معروف كتبه الإنسان، ويقتبس من النّسخة الآشوريّة للملحمة (اللّوح أ، الصّفحة الثّانية، السّطر 34-35) وصف الإلهة أرورو التي “غسلت يديها، وقرصت بعض الصلصال، ورمته أرضًا، وبنت منه البطل إنكيدو”.
في تتمّة النّصّ، يُضيف كاسوتو تفسيرًا يقول فيه إنّ الأنبياء والشّعراء، بحسب عادتهم، لم يمتنعوا عن قبول المصطلحات المأخوذة من معجم التّقاليد القديمة على ما هي عليه، واستخدامها استخدامًا بلاغيًّا. فالتّوراة، بطريقتها، لا تعطي تفاصيل الخليقة، ولا تذكر يد الإله. لذلك، وبدل استخدام كلمة الطّين، المرتبطة بمفهوم عمل صانع الأواني الخزفيّة على دولاب الخزف، فإنّها تفضّل استخدام الاسم المرادف “تراب“.
هذا التّناظر بين كلمتَي تراب وطين يظهر في عدّة مواضع أخرى في سفر أيّوب، وتوضّح العلاقة بين المفهومين: فكم بالحري سكان بيوت الطّين التي من تراب أساسها (الإصحاح 4، آية 19)؛ أذكر رجاءً، أنّك جبلتني كالطّين وستعيدني إلى التّراب (الإصحاح 10، آية 9)؛ ذكراكم أشبه بالرّماد وقدّكم كقدّ الطّين (الإصحاح 13، آية 12)؛ إن كَنَزَ كالتّراب الفضّةَ وكالطّين أعدّ الملابس (الإصحاح 27، آية 16)؛ قَد طرحني في الوحل فأشبَهتُ التّراب والرّماد (الإصحاح 30، آية 19).
يُشير كاسوتو في نهاية نصّه إلى أنّ هناك من يعتقد أنّ كلمة “تُراب” هنا أُضيفت إضافة متأخّرة، وقال إنّ هذا المعتقد ليس صحيحًا، معتمدًا على التّناظر في مرحلة لاحقة من سفر التّكوين، بخصوص الخطيئة الأصليّة والعقاب الذي تلاها: “بعرق وجهك، تأكل خُبزًا، حتّى تعود إلى الأرض، التي أُخِذت منها: لأنّك تراب، وإلى تراب تعود” (ٍسفر التّكوين، الإصحاح 3، آية 19)، وعلى الآيات المذكورة من سفر أيّوب. كذلك، يضيف كاسوتو أنّه من ناحية تركيب الجملة، فإنّ التّراب هو مفعول به للطّين، وإضافة “إلى الأرض” تُشير إلى المكان الذي أُخِذ منه التّراب.
في نهاية هذا الفصل الذي يُعنى بخلق الإنسان من التّراب والماء، سوف أقتبس تشبيهًا جميلًا لصناعة الخزف كاستعارة لقيادة الله خلال التّكوين، وهو ما نجده في قصيدة ليوم الغفران تظهر في تقاليد الصّلوات منذ القرن الـ 12: “هوذا كالطّين بيد الفخاري، الذي يمدّد بإرادته ويقلّص بإرادته، نحن أيضًا في يدك يا رب…“. يشبّه مؤلّف القصيدة المجهول الاسم الرّب بالفنّان الذي يُنتج ويصبّ الحياة ويتحكّم بالطّين، وهو يستند في هذه السّطور إلى أقوال الله للنّبي إرميا: “هوذا كالطّين بيد الفخاريّ أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل” (سفر إرميا، إصحاح 18، آية 6).
النّار، والرّيح، والماء، والتّراب، والهواء، والظّلام
رأينا أنّ الله، بحسب الميثولوجيا العبرانيّة القديمة، جعل البخار يعلو من الأرض لترطيبها أوّلًا، ثمّ استخدم بعضًا منها لخلق الإنسان. في مصادر ميثولوجيّة عبرانيّة أخرى، تظهر حكاية أخرى: “في اليوم السّادس لعمليّة التّكوين، وبأمر من الله، خلقت الأرض آدم […] النّار، والماء، والهواء والظّلام امتزجت في رحم الأرض وخلقت أشكالًا حيّة.”[i]
وفي كتاب الزّوهار، وهو مصدر صوفيّ، تظهر تركيبة مختلفة، بموجبها خُلِق الإنسان من أربع موادّ أساسيّة وهي النّار، والرّيح، والماء، والتّراب: “واعلم، أنّ الخالق المُبارك خلق الإنسان وخلقه على شكله وصورته وحضّره من أربعة أشياء يختلف الواحد عن الأخرى، من نار من ريح من ماء من تراب، إذ قيل “وكانت الأرض توهو وبوهو (תוהו ובוהו) وعلى وجه الغمر الظّلمة وروح الله” (سفر التّكوين، الإصحاح 1، آية 2)، وهي الأشياء الأربعة المذكورة، وكما يجري التّأويل: في إحدى المدن السّاحليّة يطلق على النّار اسم “توهو“، وهو العنصر الأوّل، و”بوهو” والظّلمة هما الماء والتّراب، ومن أين يأتي كون الظّلمة ترابًا؟ إذ قيل “وبالظّلام يكتسي اسمه” (سفر الجامعة، الإصحاح 6، آية 4) وقالوا إنّه كتلة تراب. والرّيح هي الرّوح تمامًا.”[ii]
ويظهر تقليدًا مشابهًا في المصادر المكتوبة في الآراميّة السّوريّة، وبحسبها رأى الملائكة يد الله اليُمنى مبسوطة على وجه العالم، ورأوه يأخذ غبار التّراب – مقدار حبّة فقط – من الأرض كلّها، ونقطة ماء من كلّ مياه العالم، وبعض الرّيح من كلّ الهواء، وبعض الحمّ من كلّ النّار في العالم، ويضع هذه العناصر الأربعة الضّعيفة معًا في كفّ يده،
الفصل الثّاني – الخلق بالقول
حول الحوار بين المادّة والخالق
“وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (سفر التّكوين، الإصحاح 1، آية 26)
يُطرح هنا سؤال حول ضمير المُتكلّمين المُثير في الفعل: “نعمل“. من يُشرك الله في عمليّة خلق الإنسان؟
بحسب التّفسيرات، فإنّ كلمة “نعمل” تشير إلى حوار بلاغيّ بين الله والتّوراة. أمّا بحسب تقليد آخر، فإنّ الحوار هو بين الله والملائكة. بحسب الأجاداة، فإنّ التّوراة أبديّة وسبقت الخليقة المادّيّة، إلّا أنّها أُعطيت في ما بعد في جبل سينا. جاء في المدراش أنّ الله قال للتّوراة “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”. فأجابت التّوراة: “يا ربّ العالمين، العالم كلّه لك، وأنت تعمل به ما تشاء وما تراه مناسبًا؛ هذا الإنسان الذي تُريد خلقه قصير الأيّام ومُشبع بالغضب ونهايته الخطيئة. إذا لم تطل صبرك معه، من الأفضل له ألّا يأتي إلى العالم. قال لها الله: وهل يسمّونني سدًى “طويل الأناة وكثير الرّحمة”؟ وبدأ يجمع تراب الإنسان الأوّل من أربع جهات الأرض، أحمر وأسود وأبيض وأخضر. الأحمر هو الدّم، والأسود هو الأمعاء، والأبيض هو العظام والأوتار، والأخضر هو الجسد. ولماذا جمع التّراب من أربع جهات العالم؟ قال الرّبّ إنّه إذا ذهب امرؤ من الشّرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشّرق، أو في أيّ مكان يذهب إليه وحان وقت رحيله عن العالم، فلا تقول له الأرض إنّ تراب جسدك ليس من ترابي في ذلك المكان، ولن أقبلك هنا – عد إلى المكان الذي ولدت فيه. وهذا ليعلّمك أنّه أينما ذهب الإنسان وحان وقت رحيله من العالم، فإنّه من ذاك التّراب وهناك يعود جسده”.[i]
يفتتح الرامبان – الحاخام موسى بن ناحمان – والذي كان من كبار حاخاميّ إسبانيا في القرن الـ 13، تأويله للآية بقوله إنّ الموادّ لخلق الإنسان أُخِذَت من عناصر اليوم الأوّل، وهو اليوم الوحيد الذي خُلِقَ فيه الشّيء من العدم. بحسب قوله، في باقي الأيّام، حصلت الخليقة على موادّها من هذه العناصر. أمّا الفعل نعمل فيفسّره كانسجام من العمل المشترك بين الله والأرض.
أمّا في تفسيره للآية: “في البدء، خلق الله السّماوات والأرض” (سفر التّكوين، الإصحاح 1، آية 1)، يكتب عن الموادّ التي خُلِقَت من العدم: “[…] خلق الله جميع الخليقة من الصّفر المطلق. وفي لسان القدس ليس هناك فعلًا يعبّر عن إخراج الشّيء من العدم إلّا الفعل “خلق”. ولا تدلّ الـ “نعمل” – إن كان تحت الشّمس أو فوقها – على إيجاد شيء من العدم. أخرج الله من الصّفر المطلق عنصرًا دقيقًا جدًّا، ليس به الكثير، بيد أنّه قوّة فاعلة، مستعدّة لتقبّل الشّكل، والخروج من القوّة إلى الفعل، وهو المادّة الأولى، التي أطلق عليها الإغريق اسم “يولي”، وبعد ذلك الـ “يولي” لم يخلق شيئًا، بل أنتج وعمل، لأنّه صنع كلّ شيء وألبس الأشكال ووضعها.” هذا التّصوّر هو بمثابة قاعدة يستخدمها الرّامبان لتأويل الشّراكة بين الله والأرض في صنع الإنسان في سفر التّكوين، الإصحاح الأوّل، آية 26: “خصّص في صنع الإنسان قولًا، في سبيل كِبَر قامته، إذ ليس طبعه كطبع الحيوان والبهيمة وقد خُلِقا بالقول السابق له. والاستخدام الصّحيح لكلمة “نعمل” هو لأنّك قد رأيت مسبقًا أنّ الله وحده خلق الشّيء من العدم في اليوم الأوّل وبعد ذلك من العناصر تلك صنع الخليقة […] وقال عن الإنسان “نعمل” أي أنا والأرض المذكورة سوف نعمل إنسانًا، وستخرج الأرضُ الجسدَ من عناصرها […] كما هو مكتوب وهكذا صنع الرّب الإنسان ترابًا من الأرض.”
في كتاب الزّوهار، هناك وصف لخلق الإنسان كعمل شارك فيه كلّ من: الماء، والسّماء، والأرض والله، مع فصل بين المادّة والرّوح، بين الجسد الذي أنتجته الثّلاثة الأوائل، وبين إعطاء الرّوح الحيّة من قبل الله:
“عندما خلق الله العالم كان بغالبيّته من الماء، ومن الماء زُرِع كلّ العالم. وأقام الله ثلاثة فنّانين ليعملوا فنّه في هذا العالم، وهي السّماء والأرض والماء، ومن هذه خُلِق كلّ ما في هذا العالم. واستدعى هذه الثّلاثة [وأمر] كلّ واحد منها أن يُنتج المخلوقات اللّازمة في العالم. استدعى الماء، وقال له: سوف تُخرج الأرض من تحتك، فاذهب وتجمّع في مكان واحد. وهكذا فعل الماء، ولذلك كتب: “لتجتمع المياه”. ونادى الأرض، وقال لها: سوف تُخرجي المخلوقات منك، البهائم والحيوانات وأشباهها. وفورًا فعلت، إذ كتب: “وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حيّة كجنسها”. ونادى السّماء، وقال لها: عليك أن تفرّقي بين ماء وماء. وهكذا فعلت، إذ كتب: “فعمل الله السّماء”. ونادى الأرض، وقال لها: أخرجي عشبًا وبقلًا وثمرًا وأشجارًا. وهذا المكتوب: “وأخرجت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا”. ونادى السّماء أيضًا، وقال لها: لتكن بك أضواء وأنوار لإضاءة الأرض، ولذلك كتب: “تكون أنوار في جَلَد السّماء”. وكذلك نادى الماء، وقال له: سوف تخرج الأسماك والطّيور وما شابهها، ولذلك كُتِب: “لتفض المياه زحّافات ذات نفس حيّة”. وبواسطة هذه الثّلاثة أنجز كلّ عمل في التّكوين، كلّ بحسب جنسه. وعندما حان اليوم السّادس، كانت جميعها مستعدّة للخلق كما في سائر الأيّام. قال لها الله: لا يستطيع أيّ منكم أن ينجز هذه الخليقة وحده كما هي حال سائر المخلوقات التي خلقناها حتّى الآن، لكنّكم سوف تتّحدون معًا وأنا معكم وسوف نصنع الإنسان؛ إذ لن تتمكّنوا من صنعه وحدكم، لكنّ الجسد سوف يكون من ثلاثتكم والرّوح لي. ولهذا ناداها الله وقال لها: “نعمل إنسانًا”، أنا وأنتم، أنا [سأعمل] الرّوح وأنتم الجسد. وهكذا كان الجسد من ثلاثتها، تلك التي كانت بمثابة فنّاني إنجازات التّكوين، وأمّا الرّوح فأعطاها الله، الذي شاركها بها.”[ii]
على إثر ما جئنا به من الرّامبان وكتاب الزّوهار، لا يسعني إلّا أن أقول إنّ سرّ خلق البشر هو حوار وإصغاء بين الخالق والمادّة كحاضرة فاعلة. بداية الخليقة هي فكرة تصبو نحو الكمال، إلّا أنّها عندما تصل إلى المادّة تتطلّب تسوية نابعة عن إصغاء متبادل. هذه الخاصّيّة الأساسيّة هي نقطة انطلاق، لا لوصف الخليقة ذاتها تحديدًا، بل لوصف تكوّنها، أو بتعبير أدقّ، الجدليّة التي تمخّضت عن ولادتها. من المُحتمل أن تكون هذه الخاصيّة قد خُلِقَت في فعل التّكوين، بشراكة بين الله الخالق والمادّة الخالقة.
المادّة والرّوح
“ونفخ في أنفه روح الحياة فصار الإنسان نفسًا حيّة” (سفر التّكوين، الإصحاح 2، آية 7)
بحسب تأويل كاسوتو: “بعد أن خلق الكائن، جعله جاهزًا لتنفّس الهواء، وهو رمز واضح للحياة، وهكذا بعث في الكائن الحياة، وأصبح كائنًا حيًّا. يبدو أنّ هذا أيضًا هو مفهوم تقليديّ. يروي (المؤرّخ) بيروسوس البابليّ (الذي عاش في القرن الثّالث قبل الميلاد) أنّه من الدّم الإلهي المخلوط بصلصال الأرض خُلِق البشر والحيوانات بقدرتها على تنفّس الهواء، وكان المصريّون على طريقتهم يرسمون الإله “خنوم” جالسًا أمام دولاب الخزف وينتج فوقه الإنسان، وإلى جانبه زوجته “حكت” التي تُقدّم عند أنوف الكائنات المصنوعة إشارة الحياة […] في سفر أشعياء، الإصحاح 42، آية 5 مكتوب بخصوص خليقة العالم: مُعطي روحًا للشّعب عليها (على الأرض)، وفي سفر أيّوب، الإصحاح 33، آية 4: روح الله صنعني، ونسمة القدير أحيتني.”[i]
في إطار التّشبيه بأعمال من صنع الإنسان، بودّي أن أقارن بين “ونفخ في أنفه روح الحياة”، وبين عمل نافخ الزّجاج، الذي ينفخ الهواء من جسده وإلى داخل المادّة الخام فيُكبسها معنى. إنّها صنعة ذات تقاليد قديمة منذ سنين قديمة، وبالرّغم من أنّها هي أيضًا تعتمد على النّار، فإنّ طابعها يختلف عن صنعة الخزف القديمة التي ذكرناها في صنع الجسد. ويظهر وصف جميل على ذلك في مدراش رابا حول سفر التّكوين: […] “تولد الأواني الفخاريّة من الماء وتتصلّب بالنّار، أمّا الأواني الزّجاجيّة فتولد بالنّار وتتصلّب بالنّار”.[ii] إنّها صنعة تستند إلى المادّة، والنّار، والرّوح بكلّ ما في الكلمة من معنى. نافخ الزّجاج يُخرج الزّجاجَ من كوّة الصّهر فتكون سائلة وحارقة، فينفخ بها من خلال أنبوب يصل بينه وبين المادّة الخام وبهذا يعطيها الـ “حياة”.
فيلون السّكندريّ هو فيلسوف يهوديّ هلّينيّ عاش في الإسكندريّة في القرن الأوّل بعد الميلاد، وفي كتابته عن الخليقة بالصّورة، يدّعي أنّ العقل، لا الجسد، هو الصّورة، وهو يشدّد على كون المادّة إناء تُصبّ فيه الرّوح. يستند بتصوّره إلى عالم الأفكار بحسب أفلاطون. “هنا مكتوب، أنّه بعد سائر الأشياء، خُلِق الإنسان كالمذكور على صورة الله وشبهه […] لكن يجب ألّا يفترض أحد أنّ هذا الشّبه عبارة عن شبه جسديّ: إذ لا شكل جسديّ لله. ولا صورة إلهيّة لجسد الإنسان. هذه الـ “صورة” تُشير إلى العقل، وهو قائد الرّوح.”[iii]
الرّامبام (الحاخام موسى بن ميمون)، وهو من عظماء الحاخامين في إسبانيا في القرن الـ 12، تأثّر بنظريّة أرسطو بخصوص تركيبة الكون، ولم يتبع الثّلم الفلسفيّ الذي وضعه فيلون. في كتابه “دلالة الحائرين” (מורה נבוכים)، يؤوّل الرامبام الكلمتين “صورة وشبه” مدّعيًا أنّهما تُشيران إلى العقل الإلهي، وهي خاصّيّة أُعطيت في الخليقة لآدم وحده. وهكذا يقول: “بسبب العقل الإلهي المتّصل به، قيل عن الإنسان أنّه على صورة الله وشبهه، لا لأنّ الإله […] هو جسد، أو ذا قالب […] وبسبب هذا الإنجاز العقليّ قيل عنه: “على صورة الله خلقه” (سفر التّكوين، الإصحاح 1، آية 27) […] وبقوله “نعمل الإنسان على صورتنا” (سفر التّكوين، الإصحاح 1، آية 26)، القصد من وراء تلك الكلمة هو شكل هذا الكائن، أي عقله، لا قالبه أو شكله” (رامبام، دلالة الحائرين، القسم الأوّل، الفصل الأوّل)
الخاتمة
عند نهاية حياته، ومع عودة الإنسان إلى الأرض التي منها تكوّن، تفارق الرّوح المادّة.
حول هشاشة حياة الإنسان يُمكننا أن نقرأ هذه الكلمات البلاغيّة، المأخوذة عن قصيدة من أرض إسرائيل، كُتِبَت بحسب التّخمينات المتعارف عليها في الأبحاث اليوم، في القرنين الخامس والسّادس للميلاد، وكتبت بمناسبة يوم الغفران: “الإنسان أصله من تراب ونهايته في التّراب، بنفسه يُحضر خبزه، وهو كالخزف المكسور، كالقشّ الجاف وكالثّمرة الذّابلة، وكالظّلّ العابر، وكالغيمة المُحتضرة، وكالرّيح الهابّة، وكالغُبار المتطاير، وكالحلم الطّائر” (من صلاة “وأعطت صلاحيّة”.
وكما جاء في سفر الجامعة: “فيرجع التّراب إلى الأرض، كما كان؛ وترجع الرّوح، إلى الله الذي أعطاها” (سفر الجامعة، الإصحاح 12، آية 7).
وحول مسألة أبديّة القيامة بعد إتمامه غايته وعودته إلى المادّة البدائيّة، فقد صاغ الشّاعر يهودا عميحاي الأمر بكلماته الرّائعة: “من ذا الذي سيقوم ويقول للتّراب: من إنسان أنت وإلى إنسان ستعود”.[i]